كل عام يهل علينا رمضان، ونعبر عن فرحتنا به، ونظهر الغبطة والحفاوة بهذا
الزائر الكريم. وفي كل عام نحيي شعيرة الصوم ونعظمها أيما إكبار؛ ينم عن أن
في أنفس المسلمين بقية من "تقوى القلوب" ما دام الناس يعظمون شعائر الله
تعالى.
في رمضان تتجلى رحمة الله على عباده؛ فترى الناس وقد أقبلوا على إحياء
لياليه بالصلاة وقراءة القرآن والذكر، كما أنهم يصومون أيامه استجابة لنداء
الله تعالى، وتلبية لدعوته التي دعاهم فيها بقوله: (شهر رمضان الذي أنزل
فيه القرآن. هدى للناس وبينات من الهدى والفرقان. فمن شهد منكم الشهر
فليصمه)(1) ، واتباعًا لقول الحبيب المصطفى -صلى الله عليه وسلم-: "الصيام
والقرآن يشفعان للعبد يوم القيامة، يقول الصيام: أي رب منعته الطعام
والشراب فشفعني فيه، ويقول القرآن منعته النوم بالليل فشفعني فيه، قال:
فيشفعان"(2) .
وحديثنا في هذا المقام ليس عن أهمية الصوم، ولا عن أحكامه، ولا عن فضل
الصائم القائم عند الله تعالى، وإنما أردنا أن نتوجه إلى جانبين مهمين من
جوانب حياتنا؛ لرمضان عليهما تأثير كبير. إنهما: الجانب الثقافي، والجانب
الاجتماعي في حياتنا. وكيف يتأثران بهذا الشهر الكريم. وبعبارة أخرى فإن
لرمضان قيمه الثقافية والاجتماعية التي يربينا عليها، وبالتالي يصبغ الأمة
كلها بها.
القيم الثقافية لرمضان المبارك
تتجلى الوحدة الثقافية للأمة في هذا الشهر المبارك بصفة خاصة؛ ففيه تتحد
الأفكار، وتتجه الأنظار إلى القرآن بشكل ملفت للنظر، بل حتى ذلك المسلم
الذي لا يكاد يلمس المصحف طوال السنة، يلين جانبه، ويرق قلبه، حينما يرى
مظاهر قراءة القرآن منتشرة في كل زاوية من زوايا المساجد والمصليات
والبيوت، بل وحتى محطات الإذاعة والتلفزيون على قلة ما تقدمه!.
وفي هذا الشهر الكريم تتلو ملايين من المسلمين القرآن كما لم تتله في بقية
أيام السنة، وتمتلئ المساجد بالمصلين على غير عادتها في الأيام الأخرى،
وتتحد مواقيت الوجبات، بل وتتقارب نوعيات الأطباق في مختلف أقطار الإسلام،
برغم بعد المسافات واختلاف الأجناس، وتباين الأعراف، وتغاير العادات.
إن هذا الشهر الكريم يصبغ المجتمعات الإسلامية بصبغة إسلامية، ويكون موسمًا
تعظم فيه شعيرة من أكبر شعائر الإسلام، وقاعدة من قواعده الخمس. وفي هذا
الشهر، لا تجد طوائف كثيرة من أبناء المسلمين ممن انساحوا خلف الأفكار
البدعية والشركية والمنحرفة إلا الانضواء في الثقافة العامة للمجتمع، والتي
هي ثقافة رمضان، ذلك الشهر الذي يطغى ببركته على كل التعبيرات النشاز التي
تعودناها في بقية السنة.
بل إنه رغم اختلاف أفراد الأمة في المشارب اللغوية والفكرية والعرقية
والقومية وغيرها؛ فإن لرمضان سمته الخاص حتى على طريقة الأكل، وطريقة
الكلام، وطريقة الصلاة، بل وطريقة تلاوة القرآن. ذلك أن رمضان يوحد أنماط
الأكل وطرائقه في كل أقطار العالم الإسلامي، حيث تختفي الفردانية والعزلة،
وتأتي المائدة المشتركة التي تجمع أفراد الأسرة الواحدة في جلسة مشتركة
تحفهم سكينة رمضان سواء في ذلك أكانت المائدة تحوي أكلاً شهيًا متنوعًا أم
تحوي أكلاً متواضعًا قليلاً، لكن طريقة التناول وأوقاتها واحدة.
أما طريقة الكلام؛ فإن رمضان يمنح الصائم سمتًا من الهيبة وقلة الكلام
والتزام الذكر، وتلك لعمري فائدة كبيرة تنسجم مع أهداف هذا الشهر الكريم في
تربيتنا على ثقافة العمل وقلة الكلام. إن رمضان يعلم الناس الإنجاز العملي
والإعراض عن الخوض في ما لا ينفع من القول. أو بتعبير مالك بن نبي - رحمه
الله- إن رمضان يعلمنا "المنطق العملي"، فنتحول من القول وفق ما يقول
القرآن إلى العمل بما يقول.
أما طريقة الصلاة؛ فإن رمضان يضفي على الصلاة نكهة خاصة، إذ تقل فيه صلاة
الفذ، وتكثر فيه صلاة الجماعة، ويحرص فيه الناس على صلاة الصبح بعد أن نسوا
أداءها في وقتها طيلة العام، كما أن النوافل تلقى حظها من العناية، وتقام
الليالي ويحي الناس ليالي رمضان بالتراويح وقيام الليل. وبالرغم من أن
كثيرا من أبناء المسلمين يحيون ليالي رمضان في لعبة الورق وغيرها من
الملهيات، غير أن هناك – بلا شك- الكثير من أبناء المسلمين أيضا من يجددون
صلتهم بالمسجد، وبالجماعة، وبقيام الليل، وبإحياء النوافل.
أما القرآن؛ فإنه ينال الحظ الأوفر من العناية، ومن خلال علاقاتي مع الناس
رأيت أن منهم من لا يقرأ القرآن أبدا خلال العام كله، غير أنه يجدد صلته
بكتاب الله تعالى في هذا الشهر الكريم، بل ومنهم من لا يفك صلته بالقرآن
بعد نهاية رمضان، ويستمر في صلته تلك، بعد أن أشرب قلبه حب القرآن وتلاوته
في رمضان.
أما من جهة الآداب؛ فإن الثقافة الشرعية تجد لها طريقا إلى سلوك الناس
خاصتهم وعامتهم، فتجد المسلم الصائم يجتنب جميع ما حرم الله عليه من
الأقوال والأفعال, فيحفظ لسانه عن الكذب والغيبة والنميمة والسب والشتم
وفحش القول, ويحفظ بصره عن النظر إلى المحرمات, ويحفظ أذنه عن الاستماع
للحرام, ويحفظ بطنه عن كل مكسب خبيث محرم. وبذلك فإن رمضان يفرض نمط سلوكه
على الناس، في طرائق اللباس والأكل والكلام كما قلنا، حفاظًا من الصائم على
عدم انتهاك حرمة رمضان، وحرصًا أيضا على عدم ذهاب صومه، استجابة لقوله صلى
الله عليه وسلم: "من لم يدع قول الزور والعمل به فليس لله حاجة في أن يدع
طعامه وشرابه" ، وقوله عليه الصلاة والسلام: "الصيام جنة فإذا كان يوم صوم
أحدكم فلا يرفث ولا يصخب, فإن سابه أحد أو قاتله فليقل إني امرؤ صائم" (3).
وبذلك فإن جوارح المسلم وعقله وروحه تتحد في وجهتها إلى الله تعالى من
خلال التزام المسلم الصائم بمراقبة ظاهره وباطنه وعيًا منه وخوفًا من أن
يكون ممن قال فيهم النبي -صلى الله عليه وسلم-: "رب صائم حظه من صيامه
الجوع والعطش"(4) .
هذه بعض القيم الثقافية التوحيدية التي يغرسها رمضان في نفوس أفراد الأمة،
ذلك أنه يوحد طرائق التعبير والأداء والأكل، ويوحد الآداب، ويعلي من شأن
القيم ويعطيها صبغتها العاملة في النفوس أفرادًا ومجموعاً، بحيث إنك لو
ذهبت إلى الجزائر أو الكويت أو السعودية أو حللت بماليزيا أو إندونيسيا، أو
زرت تركيا أو باكستان أو نيجيريا، أو صمت رمضان في غامبيا أو مالي أو
موريتانيا أو اليمن، فإنك تلاحظ وحدة التعابير الثقافية التي يتحلى بها
الناس في هذا الشهر الكريم في أي بقعة تعيش فيها جماعة من المسلمين.
ولهذا نقول: إن وحدة الأمة قد لا تظهر على مستواها السياسي أو الاقتصادي أو
غيرها من المستويات، ولكن شعائر الله وأيامه تظهرها بجلاء ووضوح في قيمها
الثقافية، أي في طرق تعبيراتها الفكرية والعلمية والسلوكية والعملية، أو
بتعبير ابن نبي؛ في ثقافتها.
الوحدة الاجتماعية للأمة في رمضان
وفي رمضان أيضًا تتجلى تلك الوحدة الاجتماعية بين المسلمين، إذ ينمو الشعور
بالوحدة والتكافل بين المسلمين. فالمسلم الصائم يتبادل العواطف والمشاعر
نفسها مع الناس من حوله حينما يراهم صيامًا كلهم؛ بل إنه يشعر بالصلة
والرابط المتين مع البقية من جيرانه وأصحابه وإخوانه وأصدقائه وأهله وبمن
يحيط به. إذ الكل صائم, والكل يمتنع عن ملذات الدنيا المباحة استجابة لدعوة
الرحمن.
إن الغني والفقير، والرئيس والمرؤوس، والمرأة والرجل، والعربي والأعجمي،
والشيخ والشاب يمسكون ويفطرون دون تفاضل أو تمايز إلا بعذر شرعي. فلا
استثناء ولا خروج عن نهج هذه الشعيرة بناء على جاه أو مركز أو مال أو صلة
قربى أو حمية. وهنا تظهر القيمة التوحيدية لهذه الشعيرة، إذ يستوي في
الالتزام بها الناس جميعًا، ويدرك الفقير والغني أنهما من طينة واحدة؛ بل
ويدرك الغني ما يعانيه الفقراء من همّ الجوع طوال أيام السنة عندما يجرب
جوع "أيام معدودات"، وتتجلى معايير الإسلام في التفاضل بين الناس، ليس على
أساس طبقي أو عرقي أو جنسي، بل على أساس التقوى والعمل الصالح، على أساس ما
يبذله كل فرد سرًا وعلانية من اجتهاد في العبادة، ويصير بذلك ميزان
التفاوت في المجتمع وعند الله هو (إن أكرمهم عند الله أتقاهم) ، و (كتب
عليكم الصيام كما كتب على الذين من قبلكم لعلكم تتقون) . إنها وحدة
اجتماعية في ظل العبودية لله تعالى.
ومن جهة أخرى؛ فإن هذا الشهر الكريم يقلل الفجوة بين فقراء الأمة وأغنيائها
وذلك من وجهين: الأول: أن كثيرًا الأغنياء ممن تعود على حياة الدعة والغنى
والعيش الرغيد تحصل لهم مشقة بامتناعهم عن الطعام والشراب في نهار رمضان،
وهذا يوصلهم إلى إدراك نعمة الله تعالى عليهم بالغنى والتنعم بخيرات الله
تعالى طوال السنة، كما أن منهم من يدرك ما يعانيه البائس والمعتر والفقير
والمسكين من الناس، ويدرك أغنياء الأمة ما فيه فقراؤها من هم وغم، فيجددوا
صلتهم بأمتهم، ويعطوا من فضل الله عليهم إلى فقراء الناس. والواقع يشهد أن
في رمضان تزداد صدقات الأغنياء وتبرعاتهم وعطاياهم. وهذا من مقاصد هذا
الشهر الكريم الذي يجعل هؤلاء الأغنياء يدركون ما يعانيه إخوانهم ممن
أصابتهم الفاقة والفقر. وبهذا تتجلى أهمية هذا الشهر الكريم في إحلال قيم
الوحدة الاجتماعية بين أبناء الأمة.
والثاني: أن الفقراء الذين لا يجدون حاجتهم طوال السنة يفتح الله عليهم
ببركات هذا الشهر الكريم من الخيرات ما يجعلهم أقل بؤسًا وأكثر راحة، بل
ومن الفقراء من يغنيه الله في هذا الشهر الكريم، ومنهم كثيرون يدركون أن
قيمة هذه الأمة في وحدة أبنائها وتعاون فقيرهم مع غنيهم. ويدرك الفقراء أن
الأغنياء إخوانهم فلا يحقدون عليهم بما فضل الله بعضهم على بعض، كما قال
تعالى: (وَاللهُ فَضَّلَ بَعْضَكُمْ عَلَى بَعْضٍ فِي الْرِّزْقِ) (5).
في هذا الشهر الكريم تتجلى قيم التكافل والتراحم والصلة بين المسلمين في
أبهى صورها. وهذا ما نفهمه من قوله صلى الله عليه وسلم: "لو علمت أمتي ما
في رمضان لتمنت أن تكون السنة كلها رمضان" أو كما قال عليه الصلاة والسلام.
ذلك أن هذا الشهر الكريم يقرّب المسافات بين طوائف الأمة وجماعاتها، ويوحد
بينها من خلال تلك العبادات التي يؤديها المسلمون فرادى وجماعات. فتعلو
قيمة الجماعة، ويصير إحياء الشعائر سنة ظاهرة تحيى بعد أن كادت تموت،
ويتكافل الناس عندما يجتمعون، ويحس بعضهم ببعض ويدرك هذا ما يعانيه
الآخرون.
فما أعظمك يا رمضان!.. وما أكثر بركتك!.. وما أحلى صيام أيامك وقيام
لياليك!.. فإنك شهر كريم، فيك تجتمع أمة محمد فتتحد قيمها الثقافية من خلال
اللهج بالقرآن بشكل ليس في غيره من الشهور، ويتكافل فيه الناس بوجه لا
يكون في غيره من أيام الله، وهو بهذا يوحد من قيمها الاجتماعية؛ وأولها
مفهوم الجماعة ومفهوم التكافل والرحمة. والله أعلم.
________________________________________
(1)البقرة، 158.
(2)رواه أحمد.
(3) متفق عليه.
(4)رواه أحمد وابن ماجه.
(5) النحل، 71.
الزائر الكريم. وفي كل عام نحيي شعيرة الصوم ونعظمها أيما إكبار؛ ينم عن أن
في أنفس المسلمين بقية من "تقوى القلوب" ما دام الناس يعظمون شعائر الله
تعالى.
في رمضان تتجلى رحمة الله على عباده؛ فترى الناس وقد أقبلوا على إحياء
لياليه بالصلاة وقراءة القرآن والذكر، كما أنهم يصومون أيامه استجابة لنداء
الله تعالى، وتلبية لدعوته التي دعاهم فيها بقوله: (شهر رمضان الذي أنزل
فيه القرآن. هدى للناس وبينات من الهدى والفرقان. فمن شهد منكم الشهر
فليصمه)(1) ، واتباعًا لقول الحبيب المصطفى -صلى الله عليه وسلم-: "الصيام
والقرآن يشفعان للعبد يوم القيامة، يقول الصيام: أي رب منعته الطعام
والشراب فشفعني فيه، ويقول القرآن منعته النوم بالليل فشفعني فيه، قال:
فيشفعان"(2) .
وحديثنا في هذا المقام ليس عن أهمية الصوم، ولا عن أحكامه، ولا عن فضل
الصائم القائم عند الله تعالى، وإنما أردنا أن نتوجه إلى جانبين مهمين من
جوانب حياتنا؛ لرمضان عليهما تأثير كبير. إنهما: الجانب الثقافي، والجانب
الاجتماعي في حياتنا. وكيف يتأثران بهذا الشهر الكريم. وبعبارة أخرى فإن
لرمضان قيمه الثقافية والاجتماعية التي يربينا عليها، وبالتالي يصبغ الأمة
كلها بها.
القيم الثقافية لرمضان المبارك
تتجلى الوحدة الثقافية للأمة في هذا الشهر المبارك بصفة خاصة؛ ففيه تتحد
الأفكار، وتتجه الأنظار إلى القرآن بشكل ملفت للنظر، بل حتى ذلك المسلم
الذي لا يكاد يلمس المصحف طوال السنة، يلين جانبه، ويرق قلبه، حينما يرى
مظاهر قراءة القرآن منتشرة في كل زاوية من زوايا المساجد والمصليات
والبيوت، بل وحتى محطات الإذاعة والتلفزيون على قلة ما تقدمه!.
وفي هذا الشهر الكريم تتلو ملايين من المسلمين القرآن كما لم تتله في بقية
أيام السنة، وتمتلئ المساجد بالمصلين على غير عادتها في الأيام الأخرى،
وتتحد مواقيت الوجبات، بل وتتقارب نوعيات الأطباق في مختلف أقطار الإسلام،
برغم بعد المسافات واختلاف الأجناس، وتباين الأعراف، وتغاير العادات.
إن هذا الشهر الكريم يصبغ المجتمعات الإسلامية بصبغة إسلامية، ويكون موسمًا
تعظم فيه شعيرة من أكبر شعائر الإسلام، وقاعدة من قواعده الخمس. وفي هذا
الشهر، لا تجد طوائف كثيرة من أبناء المسلمين ممن انساحوا خلف الأفكار
البدعية والشركية والمنحرفة إلا الانضواء في الثقافة العامة للمجتمع، والتي
هي ثقافة رمضان، ذلك الشهر الذي يطغى ببركته على كل التعبيرات النشاز التي
تعودناها في بقية السنة.
بل إنه رغم اختلاف أفراد الأمة في المشارب اللغوية والفكرية والعرقية
والقومية وغيرها؛ فإن لرمضان سمته الخاص حتى على طريقة الأكل، وطريقة
الكلام، وطريقة الصلاة، بل وطريقة تلاوة القرآن. ذلك أن رمضان يوحد أنماط
الأكل وطرائقه في كل أقطار العالم الإسلامي، حيث تختفي الفردانية والعزلة،
وتأتي المائدة المشتركة التي تجمع أفراد الأسرة الواحدة في جلسة مشتركة
تحفهم سكينة رمضان سواء في ذلك أكانت المائدة تحوي أكلاً شهيًا متنوعًا أم
تحوي أكلاً متواضعًا قليلاً، لكن طريقة التناول وأوقاتها واحدة.
أما طريقة الكلام؛ فإن رمضان يمنح الصائم سمتًا من الهيبة وقلة الكلام
والتزام الذكر، وتلك لعمري فائدة كبيرة تنسجم مع أهداف هذا الشهر الكريم في
تربيتنا على ثقافة العمل وقلة الكلام. إن رمضان يعلم الناس الإنجاز العملي
والإعراض عن الخوض في ما لا ينفع من القول. أو بتعبير مالك بن نبي - رحمه
الله- إن رمضان يعلمنا "المنطق العملي"، فنتحول من القول وفق ما يقول
القرآن إلى العمل بما يقول.
أما طريقة الصلاة؛ فإن رمضان يضفي على الصلاة نكهة خاصة، إذ تقل فيه صلاة
الفذ، وتكثر فيه صلاة الجماعة، ويحرص فيه الناس على صلاة الصبح بعد أن نسوا
أداءها في وقتها طيلة العام، كما أن النوافل تلقى حظها من العناية، وتقام
الليالي ويحي الناس ليالي رمضان بالتراويح وقيام الليل. وبالرغم من أن
كثيرا من أبناء المسلمين يحيون ليالي رمضان في لعبة الورق وغيرها من
الملهيات، غير أن هناك – بلا شك- الكثير من أبناء المسلمين أيضا من يجددون
صلتهم بالمسجد، وبالجماعة، وبقيام الليل، وبإحياء النوافل.
أما القرآن؛ فإنه ينال الحظ الأوفر من العناية، ومن خلال علاقاتي مع الناس
رأيت أن منهم من لا يقرأ القرآن أبدا خلال العام كله، غير أنه يجدد صلته
بكتاب الله تعالى في هذا الشهر الكريم، بل ومنهم من لا يفك صلته بالقرآن
بعد نهاية رمضان، ويستمر في صلته تلك، بعد أن أشرب قلبه حب القرآن وتلاوته
في رمضان.
أما من جهة الآداب؛ فإن الثقافة الشرعية تجد لها طريقا إلى سلوك الناس
خاصتهم وعامتهم، فتجد المسلم الصائم يجتنب جميع ما حرم الله عليه من
الأقوال والأفعال, فيحفظ لسانه عن الكذب والغيبة والنميمة والسب والشتم
وفحش القول, ويحفظ بصره عن النظر إلى المحرمات, ويحفظ أذنه عن الاستماع
للحرام, ويحفظ بطنه عن كل مكسب خبيث محرم. وبذلك فإن رمضان يفرض نمط سلوكه
على الناس، في طرائق اللباس والأكل والكلام كما قلنا، حفاظًا من الصائم على
عدم انتهاك حرمة رمضان، وحرصًا أيضا على عدم ذهاب صومه، استجابة لقوله صلى
الله عليه وسلم: "من لم يدع قول الزور والعمل به فليس لله حاجة في أن يدع
طعامه وشرابه" ، وقوله عليه الصلاة والسلام: "الصيام جنة فإذا كان يوم صوم
أحدكم فلا يرفث ولا يصخب, فإن سابه أحد أو قاتله فليقل إني امرؤ صائم" (3).
وبذلك فإن جوارح المسلم وعقله وروحه تتحد في وجهتها إلى الله تعالى من
خلال التزام المسلم الصائم بمراقبة ظاهره وباطنه وعيًا منه وخوفًا من أن
يكون ممن قال فيهم النبي -صلى الله عليه وسلم-: "رب صائم حظه من صيامه
الجوع والعطش"(4) .
هذه بعض القيم الثقافية التوحيدية التي يغرسها رمضان في نفوس أفراد الأمة،
ذلك أنه يوحد طرائق التعبير والأداء والأكل، ويوحد الآداب، ويعلي من شأن
القيم ويعطيها صبغتها العاملة في النفوس أفرادًا ومجموعاً، بحيث إنك لو
ذهبت إلى الجزائر أو الكويت أو السعودية أو حللت بماليزيا أو إندونيسيا، أو
زرت تركيا أو باكستان أو نيجيريا، أو صمت رمضان في غامبيا أو مالي أو
موريتانيا أو اليمن، فإنك تلاحظ وحدة التعابير الثقافية التي يتحلى بها
الناس في هذا الشهر الكريم في أي بقعة تعيش فيها جماعة من المسلمين.
ولهذا نقول: إن وحدة الأمة قد لا تظهر على مستواها السياسي أو الاقتصادي أو
غيرها من المستويات، ولكن شعائر الله وأيامه تظهرها بجلاء ووضوح في قيمها
الثقافية، أي في طرق تعبيراتها الفكرية والعلمية والسلوكية والعملية، أو
بتعبير ابن نبي؛ في ثقافتها.
الوحدة الاجتماعية للأمة في رمضان
وفي رمضان أيضًا تتجلى تلك الوحدة الاجتماعية بين المسلمين، إذ ينمو الشعور
بالوحدة والتكافل بين المسلمين. فالمسلم الصائم يتبادل العواطف والمشاعر
نفسها مع الناس من حوله حينما يراهم صيامًا كلهم؛ بل إنه يشعر بالصلة
والرابط المتين مع البقية من جيرانه وأصحابه وإخوانه وأصدقائه وأهله وبمن
يحيط به. إذ الكل صائم, والكل يمتنع عن ملذات الدنيا المباحة استجابة لدعوة
الرحمن.
إن الغني والفقير، والرئيس والمرؤوس، والمرأة والرجل، والعربي والأعجمي،
والشيخ والشاب يمسكون ويفطرون دون تفاضل أو تمايز إلا بعذر شرعي. فلا
استثناء ولا خروج عن نهج هذه الشعيرة بناء على جاه أو مركز أو مال أو صلة
قربى أو حمية. وهنا تظهر القيمة التوحيدية لهذه الشعيرة، إذ يستوي في
الالتزام بها الناس جميعًا، ويدرك الفقير والغني أنهما من طينة واحدة؛ بل
ويدرك الغني ما يعانيه الفقراء من همّ الجوع طوال أيام السنة عندما يجرب
جوع "أيام معدودات"، وتتجلى معايير الإسلام في التفاضل بين الناس، ليس على
أساس طبقي أو عرقي أو جنسي، بل على أساس التقوى والعمل الصالح، على أساس ما
يبذله كل فرد سرًا وعلانية من اجتهاد في العبادة، ويصير بذلك ميزان
التفاوت في المجتمع وعند الله هو (إن أكرمهم عند الله أتقاهم) ، و (كتب
عليكم الصيام كما كتب على الذين من قبلكم لعلكم تتقون) . إنها وحدة
اجتماعية في ظل العبودية لله تعالى.
ومن جهة أخرى؛ فإن هذا الشهر الكريم يقلل الفجوة بين فقراء الأمة وأغنيائها
وذلك من وجهين: الأول: أن كثيرًا الأغنياء ممن تعود على حياة الدعة والغنى
والعيش الرغيد تحصل لهم مشقة بامتناعهم عن الطعام والشراب في نهار رمضان،
وهذا يوصلهم إلى إدراك نعمة الله تعالى عليهم بالغنى والتنعم بخيرات الله
تعالى طوال السنة، كما أن منهم من يدرك ما يعانيه البائس والمعتر والفقير
والمسكين من الناس، ويدرك أغنياء الأمة ما فيه فقراؤها من هم وغم، فيجددوا
صلتهم بأمتهم، ويعطوا من فضل الله عليهم إلى فقراء الناس. والواقع يشهد أن
في رمضان تزداد صدقات الأغنياء وتبرعاتهم وعطاياهم. وهذا من مقاصد هذا
الشهر الكريم الذي يجعل هؤلاء الأغنياء يدركون ما يعانيه إخوانهم ممن
أصابتهم الفاقة والفقر. وبهذا تتجلى أهمية هذا الشهر الكريم في إحلال قيم
الوحدة الاجتماعية بين أبناء الأمة.
والثاني: أن الفقراء الذين لا يجدون حاجتهم طوال السنة يفتح الله عليهم
ببركات هذا الشهر الكريم من الخيرات ما يجعلهم أقل بؤسًا وأكثر راحة، بل
ومن الفقراء من يغنيه الله في هذا الشهر الكريم، ومنهم كثيرون يدركون أن
قيمة هذه الأمة في وحدة أبنائها وتعاون فقيرهم مع غنيهم. ويدرك الفقراء أن
الأغنياء إخوانهم فلا يحقدون عليهم بما فضل الله بعضهم على بعض، كما قال
تعالى: (وَاللهُ فَضَّلَ بَعْضَكُمْ عَلَى بَعْضٍ فِي الْرِّزْقِ) (5).
في هذا الشهر الكريم تتجلى قيم التكافل والتراحم والصلة بين المسلمين في
أبهى صورها. وهذا ما نفهمه من قوله صلى الله عليه وسلم: "لو علمت أمتي ما
في رمضان لتمنت أن تكون السنة كلها رمضان" أو كما قال عليه الصلاة والسلام.
ذلك أن هذا الشهر الكريم يقرّب المسافات بين طوائف الأمة وجماعاتها، ويوحد
بينها من خلال تلك العبادات التي يؤديها المسلمون فرادى وجماعات. فتعلو
قيمة الجماعة، ويصير إحياء الشعائر سنة ظاهرة تحيى بعد أن كادت تموت،
ويتكافل الناس عندما يجتمعون، ويحس بعضهم ببعض ويدرك هذا ما يعانيه
الآخرون.
فما أعظمك يا رمضان!.. وما أكثر بركتك!.. وما أحلى صيام أيامك وقيام
لياليك!.. فإنك شهر كريم، فيك تجتمع أمة محمد فتتحد قيمها الثقافية من خلال
اللهج بالقرآن بشكل ليس في غيره من الشهور، ويتكافل فيه الناس بوجه لا
يكون في غيره من أيام الله، وهو بهذا يوحد من قيمها الاجتماعية؛ وأولها
مفهوم الجماعة ومفهوم التكافل والرحمة. والله أعلم.
________________________________________
(1)البقرة، 158.
(2)رواه أحمد.
(3) متفق عليه.
(4)رواه أحمد وابن ماجه.
(5) النحل، 71.
الموضوعالأصلي : رمضان وتوحيده الأمة ثقافيًا واجتماعيًا المصدر : شبكة ومنتديات شباب الجزائر الكاتب:FARFOUR DESIGNER